“صفّارة إنذار داخل رأسي.”

النوم يتكيء على جفنيه، يحاول نفضه مع كل رَمشٍ له -كسبيلٍ وحيدٍ للدفاع.
عليّ أن أبقى يقظاً” هكذا يُخبر نفسه، هكذا يلكز نومه. ثم بوجهٍ معفّرٍ بالحنق يضرب بوق السيارة، ويعترض السير، ولا يتردد عن إرسال أي شتيمة لأي سائقٍ يظن أن قيادته لا تُوائمه هذه الظهيرة.

لا شيء يُعجبه هذا المساء.

وحتى يكون المرء مُنصفاً، فلم يكن الرجل قديماً بهذه الصورة، ثمة ما أطفأه. يظن رفاقه أنها تتبيلات الزمن، وتكيّفوا بفضل هذا اليقين مع نوباته وتبدُّلاته.
أمه كانت تختمر في رأسها فكرةٌ مختلفة تماماً: وجد الشيطان إليه منفذاً. أما زوجته، فعرفته دائماً بهذه التركيبة الجديدة، فليس ثمة ما يدعوها إلى الاعتراض.

أما هو فلم يكترث كثيراً، اقتنع منذ ٥ سنوات -بعد نوبة استياءٍ حادة- أن عافيته كانت على الدوام تكمن في التبلّد، وكفّ اهتمامه، وإغلاق أي صنبورٍ يصبُّ في غير مَورده. اقتنع دونما رجعة أنه وجد حريته المُطلقة: ألا يكترث.

كانت تسكنُ رأسه نبتةٌ مستورة، ومنكفئة، يرويها كل حين بقناعته الجديدة: نولد طيّبين، غير أن الحياة تُربينا على غير ذلك.

ضجّ المكان فجأةً بأصوات أبواق السيارات، ولم تكُ سيارته أحدها. كان الذين خلفه يحثونه على التنحي، حتى تجد سيارة إسعافٍ خلفهم منفذها.
لكنه قرر أن الأمر غير مهم، ولا يعنيه. فصمّ أذنه ببرود وأغلق نافذته دونهم.

وبالرغم من محاولات الاستنكار والاستهجان التي تلحّفته من الجموع، واستمرار أصوات النفير، فلا زال متشبثاً دون سببٍ وجيه عند موقفه، ذلك أنه -وبكل بساطة- قرر ذلك.

ولمّا جاء إليه المُسعف مُهيباً به يوقظ انسانيته: “هل أنت مجنون؟ ثمة امرأة مختنقة”
أجاب ببرود: “خذ المسار الآخر، حتى أنا أريد الوصول لداري مبكراً”
– “ما بالك أيها الملعون؟”

عند هذه الكلمة تيقظ مثل كلبٍ مسعور، وانكب على المُسعف يلكمه، ليتركه صريعاً في منتصف الشارع مثل دابةٍ نافقة.
راح بعدها المُسعف الآخر يُسعف رفيقه…

لما عاد أخيراً لمنزله، كانت السيارات تملأ شارعه، اثنتان منها سيارتيّ اطفاء تتمركز عند بابٍ يعرفه جيداً. كان منزله يحترق.
وفي صَدرِ صدمته ترك لأذنه أن تفقد حسّها بكل ما حولها، إلا من همسات مُتجمهرين اثنين، أبديا بكل حُزن: “ماتت زوجته مختنقه”.

لم تُسمع صفارة الإسعاف أبداً عند منزله ذلك اليوم.
لكنه دونما ارتياب سمعها جيداً -بشكلٍ عالٍ ومدوٍ- في مكانٍ آخر.

متى تأتي أمي؟ (قصة قصيرة)

Ben James, Wales 1953

مرّ أسبوعٌ الآن، ولازالت الفكرة تعوم في رأسه. ضبابيّة، وغريبة، ولايبدو أنه -حتى اللحظة- يفهم ماهيّتها. ولمّا لم يجد من يسمعها، علّقها على مشجب الوقت وأخذ ينتظر… متى تأتي أمه؟

لم يستطع منذها النوم، ليس خائفاً، ولايمكن الجزم بأنه مستاءٌ أيضاً.. إنه مرتبك، ويُغالبه التعجب في كل مرةٍ يطرأ فيها الموقف ويتمدّد في رأسه الصغير: أيُّ شيء هو؟ لمَ كان غريباً؟ ولم بدى له أن المسألة ليست صالحة للإفصاح ويغلب عليها التكتُّم، هل كان خطباً خاطئاً؟ لا يدري، لكنه أحسّ أن أمه تدري.. متى تأتي أمه؟

إنها تأتي، لكنها لا تأتي فعلاً؛ وتُقبل، لكنها لا تجيء حقاً.
كلّما همّ إليها وجدها ترفل في عملها وتكدح، وإذا ما فرغت كانت تسعى في المطبخ، وفي المساء كانت تداوي أمها وتقوم عليها، ثم تُلحق ذلك بشؤونها. وقلّما وجد الصبيّ منفذاً…
أما أبوه، فكان كظاً لظًا، وليس في حديثه معه مَغنمة.

وعندما أتت أخيراً -أو هكذا بدى له. ارتمى في حضنها: “أمي، اشتقت إليكِ”
– “وأنا كذلك يا صغيري” ثم راحت تعد المائدة فيما أخذ ينسلُّ من حضنها.
– “هل لعبت مع رفاقك اليوم؟”
– “لا…”
– “هيّا الحق بهم، إني اسمع أصواتهم في الخارج”
– “لكنني… لا أريد.”
وكمن تذكر أمراً مزعجاً: “وأخشى أن يلعبوا معي لعبة عمي… وأنا لا أحبها”
– نظرت إليه على عجل فيما كانت تعبث في المطبخ “مالذي تعنيه؟”
– “عندما يلعب معي عمي… يُغلق الأنوار ونلعب في الظلام
ثم يمسكني بطريقةٍ غريبة يا أمي
لا أحب هذه اللعبة… لا أريد أن ألعب هذه اللعبة”

التفتت الأم بجديّة، أوقفت ما كانت تقوم به، ثم اقتربت من ابنها. شعر أخيراً أن “الجواب” قد جاء، وأن الطمأنينة التي غادرته منذ أسبوع ستدبّ في روحه من جديد، وأن أمه المقتربة إليه الآن لطالما كانت الجواب، والملاذ:
– “لا تلعب معه إذاً!” ثم أدارت ظهرها وانشغلت من جديد.
انقبض قلبه، لم يعجبه الجواب، أين الجواب؟: “لكنه.. يلاحقني يا أمي”
وكاستجداءٍ أخير، رمى ما ظنه سيشدُّ اهتمامها: “حتى أنه يقول لا تخبر أحداً”

وقد نجح، التفتت إليه.. غير أن نظراتها لم تكن ماكان يصبو إليه.
اقتربت منه مرةً أخيرة، انحت عند رأسه، ثم قالت في صوتٍ هامسٍ وديع:

– “لا تكذب كذبةً لن يُصدقها أحد.”

ثم غادرت، قبل أن تسمع ماقاله، قبل أن تُصدّق على اعترافه.
راحت، وجلس في ظلماءه، كمن توّرط في حملٍ ثقيل، كبير، لا تقوى على حمله يدان صغيرتان، ضئيلتان:

-“لكنني…
لا أكذب يا أمي!”

أُذنك قليلاً أيها العالم.

Ben James, Wales 1953


هذه صورةٌ طيّبة. تُعيد لي أشياء قديمة، تُعيد لي شغفاً ذوى وهوى.
هذه صورةٌ تصلح لنصٍ طويل، كثيف.. يُتعبني الآن أن اكتبه.

ولست أذكر، في أيٍ مرحلةٍ أضعت هذا الرضى، هذا الشعور. أعني شعور أن تكتب شيئاً مُرضياً لايفهمه إلاك، لأن الآخرين كانوا ولا زالوا عابرين، لايكترث أحدهم بأحد، وإن فعلوا فإن اكتراثهم هذا يبور ولا يدوم. تتسابق أبصارهم على أمجاد بعضهم، يمتصوّن أحاسنهم، يهرشون لُبابهم ثم يقذفون بما تبقى منهم مثل عظمةٍ جرداء، ما عادت تستهوي أحداً.

إنه كلامٌ طويل، مريب. لايتسع له الليل، ولايفهمه إلاي، وأنتم في هذه الظلماء: محض عابرين.
أُذنك قليلاً أيها العالم؛ أشياء كثيرة لتُقال، إفشاءاتٌ ثقيلة لتُزاح. ثمة صوتٍ واهن، أرهقه هذا الزمان.

موعد مدبّر

في طاولة التحقيق، سأله المحقق: إنَّه غريب، ولست تعرفه، لمَ قتلته؟
– كنت.. كنت أريد مقابلته.
– من ؟
– ملك الموت.

جنديُّ النافذة (قصة قصيرة)

كان المساء أحمر.
وأنا لا أقول هذا بطريقةٍ شاعريّة، كان المساء فعلاً أحمر. الدماء في كل مكان، الفوضى انتشرت بسرعة، مثل رشّة عطر. والصخب يومها كان مريض غيبوبة، يفيق ساعةً ويغيب أخرى.
ذهبت لانتشال الجثث، كان عددهم بسيطاً هذه المرة، أحجامٌ لم نعتدها، أجسادٌ ضخام. استغرقنا الأمر وقتاً طويلاً لذلك، كان شاقاً أيضاً هذه المرة.
بعدما فرغت، جلست أتأمل الموقف. إنني أقتل، للمرة الرابعة. ولا أجد في الأمر أية مشكلة، هذه هي المشكلة. أحاول التنصُّل بتفسير هذا البرود، هذا التبلُّد الذي يرتديني. وكل ما أتوصل إليه أننا في مرحلةٍ ما ننتهي إلى فعل مالا كنا نتخيّل يوماً أنّا سنفعله، هذا كل شيء، نبرر ذلك بأنّا صرنا الآن أكثر فهماً.. أكثر اقتناعاً.

في المرة الأولى، حاولت إبقاء الأمر خفية. لكنه وجهي كان فاضحاً عند أمي، وجوه الأبناء دائماً أبوابٌ عارية عند أمهاتهم، واضحة، لا تُغلقها كذبةٌ أو تسترها حيلة. و كانت تعرف، أن المرء لا يخفي شيئاً إلا إذا كان جيداً جداً، أو سيئاً جداً. وكم تمنت الأولى، لكنها تدري أن الأوضاع ترجّح الثانية أكثر.

في المرة الرابعة، كانت موجودة. كان مقدراً لها أن تشهد الأمر في أي يوم، ليس الأمر كما لو أننا نتشارك قصراً، كان منزلاً صغيراً، بطابقين، وغرف كافية لأيّ عائلة صغيرة يتكون أفرادها من خمسة أشخاص. واحدٌ منهم لم يعد إلى المنزل منذ أشهر طويلة. كان ذلك أبوهم. كل ما أبقاه كان بندقية صيد.

أخبرتني ماريّة أنها سمعت بعض الأصوات، ذهبت إلى نافذة الطابق الثاني، من هناك رأيتهم، اثنان، يتضاحكان و يتمطيان. كانوا قد دخلوا ساحة دارنا، أحدهم خرج عائداً يتفقد أمراً ما، أظنه أوقع شيئاً، انفعل فجأةً مع صاحبه وأخذ يوبخه. ما إن خرج صوبت بندقيتي نحو الآخر-كما لو كنت قاتلاً محترفاً، باتجاه رقبته، وبسرعة أطلقت النار، اربع مرات، اثنتان منهما كانت في الجدار…

هكذا كنت أقتلهم، من نافذتي.

عندما سمع الثاني صوت إطلاق النار عاد مسرعاً، لم يتوقف لحظةً لتفقد صديقه، الملعون راح يرشُّ الطلقات في كل مكان بشكلٍ جنوني، وأنا صرت أرتعد وأتخبط بشكلٍ أبله. في المرات الأولى ارتجفت كثيراً وسقطت مني البندقية عدة مرات، لكني في النهاية تدبرت الأمر. هذه المرة كانت صعبة، أخذ يصوّب باستمرار نحو النوافذ، كان متمرساً ويعرف أن الرصاصة التي اخترقت صديقه للتوّ ما كانت لتجيء إلا من أعلى.

أخي الصغير كان يبكي وهو يرى اخته الكبرى تتحول لكائنٍ متوحش، لشخصٍ آخر لا يعرفه، أو لم يكن يعرفه. بينما أخذت أمي تغلق عينها كما لو كانت تدفع الشرّ بهذه الطريقة. وحدها ماريّة كانت عوناً في مثل هذا الموقف، مفزوعةً تصرخ “احذري” على الأقل.

عندما توقف لحظةً، راح يصرخ ويتوعد ويتلفت يمنةً ويسرة، صرخت ماريّة “الآن، الآن!”، رحت التقط البندقية التي سقطت أكثر مما أطلقت، وأصوّب..هذه المرة صوَب رأسه، أريد اختصار الوقت، لا أحب التعقيد، ولست ماهرة بما يكفي بحيث أتخيّر مكاناً آخر. كان غبياً إذ لم يرتد خوذةً يومها، وكان الحظُّ رفيقي ساعتها. عندما وقعت عيناه عليّ وتبيّن مكاني أخيراً، كنت قد أطلقت النار، وخرّ صريعاً، يختنق بغضبه. صليت ساعتها كثيراً للأفلام، أمي التي لطالما وبختني من أجلها صلت معي كذلك!

قبل دفنهم، بصقت عليهم، كما كنت أفعل مع كل الذين أقتل منذ بدأت الحرب. كانت هذه طريقتي الوحيدة ‪والبائسة‬ لإظهار امتعاضي، لقول:” اغربوا عن وطني! ”

القراءة: أن تفهم العالم.

كأيِّ امريءٍ سكِّير قراءة، تبدو الإجابة على سؤالٍ مثل “لماذا نقرأ” أمراً صعباً للوهلة الأولى. وكأنَّك تسأل نفسك حول أحد البديهيَّات التي لم تفكر يوماً في التوقُّف لتأمُّلها، كلِما نتنفس؟ نسعى؟ أو حتى نفتش عن السعادة؟ إذ يتبخّر عنك الكلام، يُغادرك فجأةً ويفرُّ منك في الوقت الذي كنت تحسبه صديقاً مُخلصاً وملازماً لك!

إنَّها الحاجة، الحاجة التي تسدُّ جوعنا الدائم نحو الأشياء، رغبتنا الحثيثة في الشُّعور بشكلٍ أفضل. فالقراءة ليست فعلاً عابراً، هي مَوردٌ صغير، اعتكافٌ يعزلك عما يُضيم، هي نافذتك اليقظة على الآخرين!

ولأن {اقْرَأْ} التي بعثها الله كانت زرَّ تشغيل؛ قرأت، ثُمَّ في الأديان والتاريخ والفِكر والأدب كان أن غرقت!
اقرأ، لأنَّ القراءة تذكرتي إلى عقول الخالدين، لأنَّ فيها ملاذي، لأنَّها مخرج الطَّواريء! أقرأ لأفهم العالم، لأتوصَّل إلى طريقةٍ أتصالح بها مع خيباته وغرابته، لأُحبه أكثر. أقرأ لأُجيب محمود درويش حين تساءل “هل نُدرك المجهول فينا؟”.

إنَّ ما تُضيفه القراءة لحياتك وشخصك أكبر من أن تلحظه في لحظات وتُدركه في ليالٍ معدودات، في أفعالك سترى أثرها، في سُلوكيَّاتك، مفاهيمك. فهي بارَّةٌ برفقتك غير عاقَّة. إنَّها قادرة على أن تصنع منك شخصاً قويماً أو مُعتلاً، إذ أنَّها سُلَّم، به تختار طريقك إمَّا لأعلى أو لأسفل.
و هي ليست -كما يظنُّ الطريفون حين لا يقرأون إلا الرواية- طريقاً مُختصراً لبلوغ مرحلة الثقافة واكتساب رُتبة “مُثقف” بشكلٍ تام، ليس استنقاصاً وهجاءً في الرواية، فثمَّة من هم كتولستوي ودوستويفسكي وهوجو ومن شبههم من الرائعين حفظوا للعمل الروائي قيمته ووقاره الحقيقيّين. والمُثقفون تعرفهم بسيماهم وقراءاتهم.

“المكتبة: بيتٌ كبير، يعيش الموتى فيه مع الأحياء.” هكذا يقول أحد الذين ضاع اسمهم في وجه التَّاريخ، فصرنا نُسمِّيهم بـ”مجهول”! وأُصدِّقه في ذلك.
فهلاَّ لُذنا إلى مكتباتنا و أنصتنا لوشايةِ الأموات!


-مقال كتبته على عجل، تم نشره في احد أعداد مجلة “الإسلام اليوم”
إجابةَ على سؤال: لماذا نقرأ؟

7

coldplay، والعالم يُخفض صوته، وأنا أسمعني بوضوح. كصوتٍ قديم، كذكرى نائمة، كحُزن غير مفهوم في ليلةٍ باردة.