مسرح بيكيت.

أمضيت الأيام الماضية بصحبة عائلة متجهة إلى مكة، جاء قرار الارتحال فجائياً، وعبثياً. وأعجبني ذلك؛ كنت قد مللت، رغم اطمئنان رفاقي لهذا الملل، ومحاولتهم صرفي عن قراري، وتقدير النعمة، نعمة الهدوء، والترفُّل في طمأنينة الركود. لا مصائب تهلّ عليك، ولا خطوب تُرديك. هدوء.. تامّ، وصارخ، لا تتحصّن عنده بالتحرّز أو القلق، كان ذلك بالنسبة لهم ترفُ الوجود، وقداسته.
في حين كانوا يرون في حالنا النعماء، لم أكن أرى إلا حالاً بائسة، كأننا أحد شخوص بيكيت*. وفي سبيلي للقضاء على هذه الأيام الرخوة آثرت الخروج عن النص، وبدا أن لدى هذه العائلة سعياً مثيراً ترنو إليه، فلحقتهم.

لم يحفل بي الأب الأيام الأولى، رغم محاولاتي البائسة لتلطيف الجو، وعزوت ذلك لانشغاله بالقيادة، وانكبابه على المهمة بقلقٍ وحرص، كمن يحمل ورطةً يُشغله أمر التخلص منها.
لكن الأم تنبّهت لي، ثم لحقها الصغار، ولا يسعنى -مع ذلك- أن افترض استلطافهم أو استحسانهم، غير أني اطمأننت لوجودي رغم كل شيء.

كان الصغير يذكّي الخصومة كلما أقبلت عليه، فانتهجت المحاذاة، وجانبته. أما الأخت الوسطى فكانت صامتة طوال الطريق، وتحاول إسباغ ثيمة “أولئك الذين يعرفون، لا يتكلمون” على نفسها. غير أنها لم تبلغ من أمر العارفين إلا الصمت، ولعلها أحسنت ذلك في النهاية. كان الإستقرار بجانبها بصمت أمراً باعثاً على الطمأنينة، ذلك الهدوء الذي لا يبعث على الحرج أو الغرابة.

بات وجودي بعدها مقلقاً، أحسست بثقل الموقف، وعِظم المأزق. أحطت نفسي دونما أي تفكير بجوِّ ساخط، وغاضب في حين كان يسعني أن أتجنب ذلك كله، لكني استقدمت حسن النية -مثلما أفعل دائماً- لأتفادى الندم.. رغم انتهائي دائماً إليه.

ثم أصَبت، ولهبني الندم، إذ قذفوا بي خارج السيارة، ويسعني أن أتبيّن مقدار بغضهم لما تحيّنوا نومي حتى يتخلصوا مني. أيُّ خسّة، ولئامة. لا ضمانات تصاحب أي معرفة جديدة.
لُفظت في منتصف الشارع، مثل بصقة. أصبت بالرعب، وأخذت أموجُ في الهواء وأرتعش مرعوباً في العراء.
غير أني تداركت الموقف، وأحسنت النية مرةً أخرى لما رأيتني قُذفت قرب أحد المحطات، فعجّلت إليها.

عند المحطة، كان أمامي خيارين، وسيّارتين. مجموعة من الشباب، وعائلة كما الأولى، فانضممت لثانيهما دون أن أستغرق في الاختيار. لكنه كان خياراً خاطئاً، كل شيء كان خاطئاً منذ البدء. كانت عائلةً مروعّة، وناقمة، كل فردٍ منها كان يرميني بشرر، وينهرني دونما تحرّجٍ أو اعتبار. وكأنما لم أبرح حالاً غير الأولى.

عند هذه اللحظة، رحت أسائل نفسي، وسمحت للندم أن ينال حيّزه الأكبر، بدى جلياً أن حاويات السويدي ومسرح بيكيت كان في النهاية أطيب لي من هذا كله.

حدجتني الأم بنظراتها، ثم صرخت في أبناءها:
– “أحد يذبح الذبّان ذا عنّا”

خبطة في الهواء:
– “ذبحتها يمه..
خلاص.”

6 آراء على “مسرح بيكيت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *