متى تأتي أمي؟ (قصة قصيرة)

Ben James, Wales 1953

مرّ أسبوعٌ الآن، ولازالت الفكرة تعوم في رأسه. ضبابيّة، وغريبة، ولايبدو أنه -حتى اللحظة- يفهم ماهيّتها. ولمّا لم يجد من يسمعها، علّقها على مشجب الوقت وأخذ ينتظر… متى تأتي أمه؟

لم يستطع منذها النوم، ليس خائفاً، ولايمكن الجزم بأنه مستاءٌ أيضاً.. إنه مرتبك، ويُغالبه التعجب في كل مرةٍ يطرأ فيها الموقف ويتمدّد في رأسه الصغير: أيُّ شيء هو؟ لمَ كان غريباً؟ ولم بدى له أن المسألة ليست صالحة للإفصاح ويغلب عليها التكتُّم، هل كان خطباً خاطئاً؟ لا يدري، لكنه أحسّ أن أمه تدري.. متى تأتي أمه؟

إنها تأتي، لكنها لا تأتي فعلاً؛ وتُقبل، لكنها لا تجيء حقاً.
كلّما همّ إليها وجدها ترفل في عملها وتكدح، وإذا ما فرغت كانت تسعى في المطبخ، وفي المساء كانت تداوي أمها وتقوم عليها، ثم تُلحق ذلك بشؤونها. وقلّما وجد الصبيّ منفذاً…
أما أبوه، فكان كظاً لظًا، وليس في حديثه معه مَغنمة.

وعندما أتت أخيراً -أو هكذا بدى له. ارتمى في حضنها: “أمي، اشتقت إليكِ”
– “وأنا كذلك يا صغيري” ثم راحت تعد المائدة فيما أخذ ينسلُّ من حضنها.
– “هل لعبت مع رفاقك اليوم؟”
– “لا…”
– “هيّا الحق بهم، إني اسمع أصواتهم في الخارج”
– “لكنني… لا أريد.”
وكمن تذكر أمراً مزعجاً: “وأخشى أن يلعبوا معي لعبة عمي… وأنا لا أحبها”
– نظرت إليه على عجل فيما كانت تعبث في المطبخ “مالذي تعنيه؟”
– “عندما يلعب معي عمي… يُغلق الأنوار ونلعب في الظلام
ثم يمسكني بطريقةٍ غريبة يا أمي
لا أحب هذه اللعبة… لا أريد أن ألعب هذه اللعبة”

التفتت الأم بجديّة، أوقفت ما كانت تقوم به، ثم اقتربت من ابنها. شعر أخيراً أن “الجواب” قد جاء، وأن الطمأنينة التي غادرته منذ أسبوع ستدبّ في روحه من جديد، وأن أمه المقتربة إليه الآن لطالما كانت الجواب، والملاذ:
– “لا تلعب معه إذاً!” ثم أدارت ظهرها وانشغلت من جديد.
انقبض قلبه، لم يعجبه الجواب، أين الجواب؟: “لكنه.. يلاحقني يا أمي”
وكاستجداءٍ أخير، رمى ما ظنه سيشدُّ اهتمامها: “حتى أنه يقول لا تخبر أحداً”

وقد نجح، التفتت إليه.. غير أن نظراتها لم تكن ماكان يصبو إليه.
اقتربت منه مرةً أخيرة، انحت عند رأسه، ثم قالت في صوتٍ هامسٍ وديع:

– “لا تكذب كذبةً لن يُصدقها أحد.”

ثم غادرت، قبل أن تسمع ماقاله، قبل أن تُصدّق على اعترافه.
راحت، وجلس في ظلماءه، كمن توّرط في حملٍ ثقيل، كبير، لا تقوى على حمله يدان صغيرتان، ضئيلتان:

-“لكنني…
لا أكذب يا أمي!”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *