كان المساء أحمر.
وأنا لا أقول هذا بطريقةٍ شاعريّة، كان المساء فعلاً أحمر. الدماء في كل مكان، الفوضى انتشرت بسرعة، مثل رشّة عطر. والصخب يومها كان مريض غيبوبة، يفيق ساعةً ويغيب أخرى.
ذهبت لانتشال الجثث، كان عددهم بسيطاً هذه المرة، أحجامٌ لم نعتدها، أجسادٌ ضخام. استغرقنا الأمر وقتاً طويلاً لذلك، كان شاقاً أيضاً هذه المرة.
بعدما فرغت، جلست أتأمل الموقف. إنني أقتل، للمرة الرابعة. ولا أجد في الأمر أية مشكلة، هذه هي المشكلة. أحاول التنصُّل بتفسير هذا البرود، هذا التبلُّد الذي يرتديني. وكل ما أتوصل إليه أننا في مرحلةٍ ما ننتهي إلى فعل مالا كنا نتخيّل يوماً أنّا سنفعله، هذا كل شيء، نبرر ذلك بأنّا صرنا الآن أكثر فهماً.. أكثر اقتناعاً.
في المرة الأولى، حاولت إبقاء الأمر خفية. لكنه وجهي كان فاضحاً عند أمي، وجوه الأبناء دائماً أبوابٌ عارية عند أمهاتهم، واضحة، لا تُغلقها كذبةٌ أو تسترها حيلة. و كانت تعرف، أن المرء لا يخفي شيئاً إلا إذا كان جيداً جداً، أو سيئاً جداً. وكم تمنت الأولى، لكنها تدري أن الأوضاع ترجّح الثانية أكثر.
في المرة الرابعة، كانت موجودة. كان مقدراً لها أن تشهد الأمر في أي يوم، ليس الأمر كما لو أننا نتشارك قصراً، كان منزلاً صغيراً، بطابقين، وغرف كافية لأيّ عائلة صغيرة يتكون أفرادها من خمسة أشخاص. واحدٌ منهم لم يعد إلى المنزل منذ أشهر طويلة. كان ذلك أبوهم. كل ما أبقاه كان بندقية صيد.
أخبرتني ماريّة أنها سمعت بعض الأصوات، ذهبت إلى نافذة الطابق الثاني، من هناك رأيتهم، اثنان، يتضاحكان و يتمطيان. كانوا قد دخلوا ساحة دارنا، أحدهم خرج عائداً يتفقد أمراً ما، أظنه أوقع شيئاً، انفعل فجأةً مع صاحبه وأخذ يوبخه. ما إن خرج صوبت بندقيتي نحو الآخر-كما لو كنت قاتلاً محترفاً، باتجاه رقبته، وبسرعة أطلقت النار، اربع مرات، اثنتان منهما كانت في الجدار…
هكذا كنت أقتلهم، من نافذتي.
عندما سمع الثاني صوت إطلاق النار عاد مسرعاً، لم يتوقف لحظةً لتفقد صديقه، الملعون راح يرشُّ الطلقات في كل مكان بشكلٍ جنوني، وأنا صرت أرتعد وأتخبط بشكلٍ أبله. في المرات الأولى ارتجفت كثيراً وسقطت مني البندقية عدة مرات، لكني في النهاية تدبرت الأمر. هذه المرة كانت صعبة، أخذ يصوّب باستمرار نحو النوافذ، كان متمرساً ويعرف أن الرصاصة التي اخترقت صديقه للتوّ ما كانت لتجيء إلا من أعلى.
أخي الصغير كان يبكي وهو يرى اخته الكبرى تتحول لكائنٍ متوحش، لشخصٍ آخر لا يعرفه، أو لم يكن يعرفه. بينما أخذت أمي تغلق عينها كما لو كانت تدفع الشرّ بهذه الطريقة. وحدها ماريّة كانت عوناً في مثل هذا الموقف، مفزوعةً تصرخ “احذري” على الأقل.
عندما توقف لحظةً، راح يصرخ ويتوعد ويتلفت يمنةً ويسرة، صرخت ماريّة “الآن، الآن!”، رحت التقط البندقية التي سقطت أكثر مما أطلقت، وأصوّب..هذه المرة صوَب رأسه، أريد اختصار الوقت، لا أحب التعقيد، ولست ماهرة بما يكفي بحيث أتخيّر مكاناً آخر. كان غبياً إذ لم يرتد خوذةً يومها، وكان الحظُّ رفيقي ساعتها. عندما وقعت عيناه عليّ وتبيّن مكاني أخيراً، كنت قد أطلقت النار، وخرّ صريعاً، يختنق بغضبه. صليت ساعتها كثيراً للأفلام، أمي التي لطالما وبختني من أجلها صلت معي كذلك!
قبل دفنهم، بصقت عليهم، كما كنت أفعل مع كل الذين أقتل منذ بدأت الحرب. كانت هذه طريقتي الوحيدة والبائسة لإظهار امتعاضي، لقول:” اغربوا عن وطني! ”
الحاجة إلى الأمان, والتي يمثّلها القاتل في القصة, هي أساس القتل! وإلا لما سقطت البندقية مرارًا من يديه, وقد ورد في الأمثال الشعبية ” ضربة رجّال, ولا ضربة خايف ” فالرجل يضرب ليتركَ أثرًا نفسيًا, أما الخائف فيستجمعُ قواه لينهي أثرًا نفسيًا ! ولو قُدّر للخائف أن ينهي مخاوفه بحركة واحدة – أيًا كانت – لفعلها من دون تردد .
في قصتك آنسة بنان – وعلى قلّة الأحرف- عرفت أن للقصة القصيرة قواعدٌ ينبغي أن تُراعى, وقد شاركت في مسابقة للقصة القصيرة مرة, ورُفضت بحجة أنني سعودي والمسابقة خاصة بمواطني دولةٍ ما, لكن عند قراءتي لقصتك الآن علمت أن جنسيتي السعودية ليست السبب الوحيد لرفضها, بل هو مفهوم القصة القصيرة عندي .
أحببتُ كثيرًا من الجُمل البليغة, ولولا أنْ حظرتِ النسخ عن مدونتك, لقمتُ أنا بسرقة الجُمل بدلاً من باقي اللصوص. أخيرًا وبلا مبالغة : النص يستحق أن يكون عرضًا دعائيًا, والفكرة نفسها ترتقي لأن تكون فيلمًا, والمعنى يستحق الإحترام والتصفيق طويلاً, لا أتمنّى أن تتوقفي هنا يا بنان, فما لديكِ يستحق أن يُطبع و أن يُغذى للعقول شأنكِ شأنهم و أعلى منهم.. أتمنى لكِ ذلك بحق والله .
تماماً. إنها الحاجة إلى الأمان التي تُصيّرنا فجأةً أشخاصًا آخرين، لم نكن نعلم بوجودهم.
سُعدت برأيك وقراءتك كاوا. شكراً للحديث الطيّب، والحضور الأطيب.