سيوران -من بين أحد مقالاته التشاؤمية- كان يرى أن التسامح في حقيقته ليس إلا دلالةَ على الهزيمة، وخوار القوى: “لم أعد أملك القوة الكافية لأتمنى موت عدوّ.”
ولعلّه كان يركن في قوله هذا إلى التسامح مع فِكر الآخر لا ماهيّته؛ أي عقيدته، عرقه، وأيديولجيته. ذلك أن التسامح مع البشر في بشريّتهم وسلوكياتهم -كالخديعة والكذب- إنما هو إنتصارٌ على الإنفعالات الإنسانية وتخلصٌ مريح من شباك الآخر.
وإذ نُقارب فكرة سيوران، فقد يكون التسامح- في بعض حالاته- ليس إلا اليأس بصورته الإيجابية.
اليأس الذي يمنعك عن استعتاب الآخرين في ماهيّتهم، ومساءلة العدوّ عن شرّه. اليأس الذي يمنعك أن تكون قسيساً ومُبشراً في مُتكأ شياطين.
لكن ذلك لا يهم، سيستدرك المرء عند مرحلةٍ ما نقصان الآخرين وشرورهم، وسيصفح لهم ذلك كله دونما أيّ اكتراث. ثمة مصالحة أشدُّ قداسةً يتعيّن على المرء أن يبرمها حتى يمخر السلام قلبه، لا مكان للآخرين فيها.. وهي مُصالحته نفسه.
أن تغفر لنفسك خوارها، واستسلامها. أن تغفر لها إيمانها بالآخرين ساعة الكفر ويأسها ساعة اليقين. أن تغفر لحظّك، وعزاءاتك الكاذبة. أن تغفر لقدمك، ركضها في غير سبيلها، وإحجامها عند وجهتها. أن تغفر لنفسك، تصلّبها ساعة اللين، وهشاشتها ساعة التجلّد. أن تغفر لذاكرتك نسيانها ما يبعثك من مرقدك، وتيقّظها لما يدكُّ صدرك. أن تغفر لصوتك، حشرجته عند من يهمّه، وصِدقه عند من لا يفعل. أن تغفر صمتك، وقولك. جهلك ومعرفتك… أن تغفر لنفسك بشريّتها.
يُشبه الأمر ما قاله ليندر: “بإمكاني أن أغفر، لكن ليس لنفسي.. بإمكاني أن أغسل أخطاء الآخرين، لكني لا أغسل أخطائي. أفهم أنني يجب أن أسامح نفسي، لكني لا أفعل.”
ثم إذا أنت غفرت لنفسك، هل تصفح لك الأيام؟ هل يغفر حدسك.
وهل.. يغفر لك يقينك شكك.
من يغفر لمن.