ثلاثة أسباب دفعت الساهد إلى دهس قطته

الأول، أن الساعة تجاوزت الثانية فجراً، وهي ساعةٌ يُحس فيها المرء بإلحاحٍ مرير أنما يريد شيئاً، لايعرفه. ويودُّ لو يقول أمراً، لا يتذكره. لكنه يعرف على وجه التحديد أن ذكرىً ما تلعب في رأسه كل يوم، وتطرق باستمرار. مثل صنبورٍ مهتريء، لا يصدح صوته ولا يزعجك، إلا في الليل.

يتذكر أنه كان سعيداً. وأنه أحس بالإرتياح بعد أن نال قسطه الثقيل من الأيام.
كان قد بلغ كفايته، وكان مقتنعاً في دخيلة نفسه أنَّ على المرء أن يتعفّر في الأيام العسيرة -مثلما تتلظّى دودةٌ في حرّ الثرى- حتى يتسنى له أخيراً أن يتحصّل مِنحته. وعلى ذلك، صابر وقاسى باجتهاد.

وإذ لحقت كل عذاباته الماضية، وعرفها، أحس إذ جاءت أنما هي ذي مِنحته. وأن الدنيا لايمكنها الآن -وقد دفع حصّته- أن تأتيه من الرزايا بشيء، أو تصيبه من المضارّ بضُر.. إلا أن كان ضُراً بينهما.
اعتبر حباً مُقبلاً مثل هذا مواساةً كونية، تقديراً صادقاً عن آداءه النجيب في كل السنوات الماضية التي تمخّض في كربها. وعدّها العافية الأوحد، التي كانت تنقصه حتى يبرأ.

قانعاً، مُطرقاً، ومُبتهلاً تسلّم بحبور كل هذا الحب الذي كان غائباً. حتى أنه سمح لنفسه -على غير العادة- أن يكون مغفلاً، معتقداً في قرارة نفسه أن الحب هو الموضع الوحيد الذي يسعك فيه أن تكون فيه مغفلاً؛ لأن المتعة تتطلب ذلك.

والثاني:

أنها أحبته، لكن أي نوعٍ من الحب كان ذلك؟ لم يكن وفق تصوراته المثالية، لكنه كان حبّهما الخاص. مجذوم، ومعتلّ، غير أنه يقوم بدوره على أكمل وجه.
لا، لم تكن طريقتها في حبه، ولا نوع هذا الحب هما ما ربطاه، وإنما هي، وحدها، كيفما كان حبها واعتلالها.

لكنَّ حبها، بعد ذلك، بدأ يخبو. وبات انتهاءه -بعد محاولتهما الخامسة لإنجاب أول طفلٍ لهما- أمراً مؤكداً. ولايسعك، حيال الأشياء التي ترنو إلى زوالها، إلا أن ترقب آمالك ومَظانّك تذوي معها.. مثلما يتأمل المرء قطرةً عزلى تتبخّر تحت الضحى.
وحتى يُبقي على هذه الزيجة، مادام حبه قائماً، كان عليه أن يستقطع من رصيد ذكرياته المحمومة معها، الذكريات التي كانت تحبه فيها. ثم يطمئن، وتهدأ روعته، ويحس أن حبها لازال باقياً.

كان قد تكيّف مع غياب هذا الحب، ونوبات النزق المتكررة، وربى معهما لعامين متتالين دونما سخطٍ أو غضب. والمرء يألف الخسّة البشرية إذا ما تلبّست الذين يحبهم؛ يحسبها عارضاً يستطيع التعامل معه. لكن الأمر الذي لم يتنبّه له، الأمر الذي عصر قلبه ودكَّ ارتياحه كان أن تحب رجلاً غيره.
رأى أمام عينه كل الحب الذي كان بوسعه أن يحظى به، كل الاستثناءات التي كان يستحقها، وينتظرها. رأى.. إلى أي مدىً قد يأخذها حبها، وإلى أي عذوبةٍ قد تصير مُلاطفاتها. في حين كان يحسب نفسه آخر حدّ.
هكذا إذن، لم يكن حبها له إلا تمريناً عجلاً وسريعاً قبل تنهمك أن مهمتها الأكبر.

والثالثة:

أن الساعة الآن الرابعة، وهذه ساعة الغضب. الغضب الذي يعقب مناجاةً قاسية ومطولة، لايخرج منها أحدٌ إلا بفهمٍ مرير.
ثم بدءت تموء، القطة التي بدأنا بها، وتنبّه لها وهي تنسرق بخفة إلى باحة المنزل، وأخذ يفكّر أنها الشيء الوحيد الذي بقي له، إعتذار آخر مشوّه سيغادره عما قريب، وينقلب على عقبيه. وراح يتأمل كيف كان متعلقاً بها، وإلى أي أذىً قد يأخذه تعلقٌ مثل هذا.

لا، لم يكن مستعداً. رصد موقعها، ووجه مقوده تجاهها، ثم قاد بإصرار ناحيتها.

باستطاعتي أن أعيش وحيدة – قصّة قصيرة

أتذكر أول مرةٍ أحسست فيها بالاغتراب، كنت في السابعة من عمري، وكانت صديقتي التي أمضت فصلاً دراسياً كاملاً معي قد تخلت عني للتو. أنفلقت مني يومها أوّل خيبة.
“لستِ بحاجةٍ إلى أحد، باستطاعتك العيش وحيدة” أخبرتني أمي.

ثم دخلت الجامعة، وتخرجت، وتشذّر كل رفاقي الذين عرفتهم. لكنني لم أقلق؛ باستطاعتي العيش وحيدة.

ثم كبرت، وأحببت، لكن أحداً لم يحبني. باستطاعتي العيش وحيدة.

ثم تزوجت، لم أسأل ولم أطلب، لم يُعطِ ولم آخذ، لم أختر شيئاً من ذلك، ولم أبديه. وما ضرّني ذلك في شيء.. باستطاعتي أن أعيش وحيدة.
ثم بلغت الثلاثين، وأحسستُ استطاعتي تذبل. ووحدتي تكبر. أردت طفلاً، بل أطفالاً. كانت تلك أول مرةٍ أريد، وأول مرةٍ أسأل. استيقظت رغبتي، وأودعتها بحفاوة في صغاري.

في طاولة الفحص، نظرت إليّ الطبيبة بأسى، وأنبأتني يدها وهي تربت علي كل شيء.

تذكرت أمي: “باستطاعتك…”

لكن، لا.

وبكيت.

مسرح بيكيت.

أمضيت الأيام الماضية بصحبة عائلة متجهة إلى مكة، جاء قرار الارتحال فجائياً، وعبثياً. وأعجبني ذلك؛ كنت قد مللت، رغم اطمئنان رفاقي لهذا الملل، ومحاولتهم صرفي عن قراري، وتقدير النعمة، نعمة الهدوء، والترفُّل في طمأنينة الركود. لا مصائب تهلّ عليك، ولا خطوب تُرديك. هدوء.. تامّ، وصارخ، لا تتحصّن عنده بالتحرّز أو القلق، كان ذلك بالنسبة لهم ترفُ الوجود، وقداسته.
في حين كانوا يرون في حالنا النعماء، لم أكن أرى إلا حالاً بائسة، كأننا أحد شخوص بيكيت*. وفي سبيلي للقضاء على هذه الأيام الرخوة آثرت الخروج عن النص، وبدا أن لدى هذه العائلة سعياً مثيراً ترنو إليه، فلحقتهم.

لم يحفل بي الأب الأيام الأولى، رغم محاولاتي البائسة لتلطيف الجو، وعزوت ذلك لانشغاله بالقيادة، وانكبابه على المهمة بقلقٍ وحرص، كمن يحمل ورطةً يُشغله أمر التخلص منها.
لكن الأم تنبّهت لي، ثم لحقها الصغار، ولا يسعنى -مع ذلك- أن افترض استلطافهم أو استحسانهم، غير أني اطمأننت لوجودي رغم كل شيء.

كان الصغير يذكّي الخصومة كلما أقبلت عليه، فانتهجت المحاذاة، وجانبته. أما الأخت الوسطى فكانت صامتة طوال الطريق، وتحاول إسباغ ثيمة “أولئك الذين يعرفون، لا يتكلمون” على نفسها. غير أنها لم تبلغ من أمر العارفين إلا الصمت، ولعلها أحسنت ذلك في النهاية. كان الإستقرار بجانبها بصمت أمراً باعثاً على الطمأنينة، ذلك الهدوء الذي لا يبعث على الحرج أو الغرابة.

بات وجودي بعدها مقلقاً، أحسست بثقل الموقف، وعِظم المأزق. أحطت نفسي دونما أي تفكير بجوِّ ساخط، وغاضب في حين كان يسعني أن أتجنب ذلك كله، لكني استقدمت حسن النية -مثلما أفعل دائماً- لأتفادى الندم.. رغم انتهائي دائماً إليه.

ثم أصَبت، ولهبني الندم، إذ قذفوا بي خارج السيارة، ويسعني أن أتبيّن مقدار بغضهم لما تحيّنوا نومي حتى يتخلصوا مني. أيُّ خسّة، ولئامة. لا ضمانات تصاحب أي معرفة جديدة.
لُفظت في منتصف الشارع، مثل بصقة. أصبت بالرعب، وأخذت أموجُ في الهواء وأرتعش مرعوباً في العراء.
غير أني تداركت الموقف، وأحسنت النية مرةً أخرى لما رأيتني قُذفت قرب أحد المحطات، فعجّلت إليها.

عند المحطة، كان أمامي خيارين، وسيّارتين. مجموعة من الشباب، وعائلة كما الأولى، فانضممت لثانيهما دون أن أستغرق في الاختيار. لكنه كان خياراً خاطئاً، كل شيء كان خاطئاً منذ البدء. كانت عائلةً مروعّة، وناقمة، كل فردٍ منها كان يرميني بشرر، وينهرني دونما تحرّجٍ أو اعتبار. وكأنما لم أبرح حالاً غير الأولى.

عند هذه اللحظة، رحت أسائل نفسي، وسمحت للندم أن ينال حيّزه الأكبر، بدى جلياً أن حاويات السويدي ومسرح بيكيت كان في النهاية أطيب لي من هذا كله.

حدجتني الأم بنظراتها، ثم صرخت في أبناءها:
– “أحد يذبح الذبّان ذا عنّا”

خبطة في الهواء:
– “ذبحتها يمه..
خلاص.”

الرجل الذي أحسن التوقف.

وإذا كان ثمة مزيةٍ يتزيا بها، فإنه كان يُحسن التوقف. كان يعرف متى يتوقف عن الكلام، ومتى يتوقف عن الصمت. متى يكف عن الإقدام، ومتى يكف عن الإحجام. متى يقف عن الكذب، ومتى يقف عن الصدق… كان الرجل عبقرياً، ولعله بذلك كان قد بلغ فهم الأشياء.

وأردت فهم ذلك كله عنه قبل أيام، غير أنه… كان قد توقف عن الحياة.

المسكين. (قصة قصيرة)

– يقولون أنها كانت قريةً ناضخة، وحيّة. وإني لأظنها استصابت لما قفرها قومها وانزاحوا عنها.
– لا أذكر عندها إلا وجعي، ولا أذكر منها إلا مُنقلبي.
– صحيح، أُخبرنا بأنك كنت تحب ليلى هاهنا.

وثب أمامي مثل قط: “من قال؟! إنما أكرهها! ومابغضت أحداً من العالمين مثلما بغضتها!”
ثم هدأ، وتراجع: “لكن، صحيح… كنت أحبها
وهبتها خاطري كله، وخيري جله، ورأيت فيها حاضري، وغدي، وفواتيحي، وخواتيمي، ويممت كل مراكبي عندها.
وظننتها.. أحبتني.
لكنها، لم تقابلني بمثل نيّتي، واختارت نيةً عند غيري

عند قريبٍ لها.

أما وقد حالت بيني وبينها الأيام فإني ما كنت لآسى على مدبر، هل سمعت؟ ماكنت لأغتفر لنفسي هذه الحماقة.”
– آه.. صحيح.

“لا أحتاجها، ألست تراني حياً؟!” وكنت أراه ميتاً.
“أما تراني بخير حال؟” وكانت حاله مزرية.
“إنني أتنفس” يختنق.
“وأضحك” كاذب.
“لقد تجاوزتها منذ زمن” المسكين…

– مابالك لا تتزوج إذاً وقد جاوزت الأربعين.

أخذ يتمتم.. ثم رفع رأسه تجاهي:

“لكنني…
أحتاج ليلى.”

ثم أجهش بالبكاء.

“صفّارة إنذار داخل رأسي.”

النوم يتكيء على جفنيه، يحاول نفضه مع كل رَمشٍ له -كسبيلٍ وحيدٍ للدفاع.
عليّ أن أبقى يقظاً” هكذا يُخبر نفسه، هكذا يلكز نومه. ثم بوجهٍ معفّرٍ بالحنق يضرب بوق السيارة، ويعترض السير، ولا يتردد عن إرسال أي شتيمة لأي سائقٍ يظن أن قيادته لا تُوائمه هذه الظهيرة.

لا شيء يُعجبه هذا المساء.

وحتى يكون المرء مُنصفاً، فلم يكن الرجل قديماً بهذه الصورة، ثمة ما أطفأه. يظن رفاقه أنها تتبيلات الزمن، وتكيّفوا بفضل هذا اليقين مع نوباته وتبدُّلاته.
أمه كانت تختمر في رأسها فكرةٌ مختلفة تماماً: وجد الشيطان إليه منفذاً. أما زوجته، فعرفته دائماً بهذه التركيبة الجديدة، فليس ثمة ما يدعوها إلى الاعتراض.

أما هو فلم يكترث كثيراً، اقتنع منذ ٥ سنوات -بعد نوبة استياءٍ حادة- أن عافيته كانت على الدوام تكمن في التبلّد، وكفّ اهتمامه، وإغلاق أي صنبورٍ يصبُّ في غير مَورده. اقتنع دونما رجعة أنه وجد حريته المُطلقة: ألا يكترث.

كانت تسكنُ رأسه نبتةٌ مستورة، ومنكفئة، يرويها كل حين بقناعته الجديدة: نولد طيّبين، غير أن الحياة تُربينا على غير ذلك.

ضجّ المكان فجأةً بأصوات أبواق السيارات، ولم تكُ سيارته أحدها. كان الذين خلفه يحثونه على التنحي، حتى تجد سيارة إسعافٍ خلفهم منفذها.
لكنه قرر أن الأمر غير مهم، ولا يعنيه. فصمّ أذنه ببرود وأغلق نافذته دونهم.

وبالرغم من محاولات الاستنكار والاستهجان التي تلحّفته من الجموع، واستمرار أصوات النفير، فلا زال متشبثاً دون سببٍ وجيه عند موقفه، ذلك أنه -وبكل بساطة- قرر ذلك.

ولمّا جاء إليه المُسعف مُهيباً به يوقظ انسانيته: “هل أنت مجنون؟ ثمة امرأة مختنقة”
أجاب ببرود: “خذ المسار الآخر، حتى أنا أريد الوصول لداري مبكراً”
– “ما بالك أيها الملعون؟”

عند هذه الكلمة تيقظ مثل كلبٍ مسعور، وانكب على المُسعف يلكمه، ليتركه صريعاً في منتصف الشارع مثل دابةٍ نافقة.
راح بعدها المُسعف الآخر يُسعف رفيقه…

لما عاد أخيراً لمنزله، كانت السيارات تملأ شارعه، اثنتان منها سيارتيّ اطفاء تتمركز عند بابٍ يعرفه جيداً. كان منزله يحترق.
وفي صَدرِ صدمته ترك لأذنه أن تفقد حسّها بكل ما حولها، إلا من همسات مُتجمهرين اثنين، أبديا بكل حُزن: “ماتت زوجته مختنقه”.

لم تُسمع صفارة الإسعاف أبداً عند منزله ذلك اليوم.
لكنه دونما ارتياب سمعها جيداً -بشكلٍ عالٍ ومدوٍ- في مكانٍ آخر.

متى تأتي أمي؟ (قصة قصيرة)

Ben James, Wales 1953

مرّ أسبوعٌ الآن، ولازالت الفكرة تعوم في رأسه. ضبابيّة، وغريبة، ولايبدو أنه -حتى اللحظة- يفهم ماهيّتها. ولمّا لم يجد من يسمعها، علّقها على مشجب الوقت وأخذ ينتظر… متى تأتي أمه؟

لم يستطع منذها النوم، ليس خائفاً، ولايمكن الجزم بأنه مستاءٌ أيضاً.. إنه مرتبك، ويُغالبه التعجب في كل مرةٍ يطرأ فيها الموقف ويتمدّد في رأسه الصغير: أيُّ شيء هو؟ لمَ كان غريباً؟ ولم بدى له أن المسألة ليست صالحة للإفصاح ويغلب عليها التكتُّم، هل كان خطباً خاطئاً؟ لا يدري، لكنه أحسّ أن أمه تدري.. متى تأتي أمه؟

إنها تأتي، لكنها لا تأتي فعلاً؛ وتُقبل، لكنها لا تجيء حقاً.
كلّما همّ إليها وجدها ترفل في عملها وتكدح، وإذا ما فرغت كانت تسعى في المطبخ، وفي المساء كانت تداوي أمها وتقوم عليها، ثم تُلحق ذلك بشؤونها. وقلّما وجد الصبيّ منفذاً…
أما أبوه، فكان كظاً لظًا، وليس في حديثه معه مَغنمة.

وعندما أتت أخيراً -أو هكذا بدى له. ارتمى في حضنها: “أمي، اشتقت إليكِ”
– “وأنا كذلك يا صغيري” ثم راحت تعد المائدة فيما أخذ ينسلُّ من حضنها.
– “هل لعبت مع رفاقك اليوم؟”
– “لا…”
– “هيّا الحق بهم، إني اسمع أصواتهم في الخارج”
– “لكنني… لا أريد.”
وكمن تذكر أمراً مزعجاً: “وأخشى أن يلعبوا معي لعبة عمي… وأنا لا أحبها”
– نظرت إليه على عجل فيما كانت تعبث في المطبخ “مالذي تعنيه؟”
– “عندما يلعب معي عمي… يُغلق الأنوار ونلعب في الظلام
ثم يمسكني بطريقةٍ غريبة يا أمي
لا أحب هذه اللعبة… لا أريد أن ألعب هذه اللعبة”

التفتت الأم بجديّة، أوقفت ما كانت تقوم به، ثم اقتربت من ابنها. شعر أخيراً أن “الجواب” قد جاء، وأن الطمأنينة التي غادرته منذ أسبوع ستدبّ في روحه من جديد، وأن أمه المقتربة إليه الآن لطالما كانت الجواب، والملاذ:
– “لا تلعب معه إذاً!” ثم أدارت ظهرها وانشغلت من جديد.
انقبض قلبه، لم يعجبه الجواب، أين الجواب؟: “لكنه.. يلاحقني يا أمي”
وكاستجداءٍ أخير، رمى ما ظنه سيشدُّ اهتمامها: “حتى أنه يقول لا تخبر أحداً”

وقد نجح، التفتت إليه.. غير أن نظراتها لم تكن ماكان يصبو إليه.
اقتربت منه مرةً أخيرة، انحت عند رأسه، ثم قالت في صوتٍ هامسٍ وديع:

– “لا تكذب كذبةً لن يُصدقها أحد.”

ثم غادرت، قبل أن تسمع ماقاله، قبل أن تُصدّق على اعترافه.
راحت، وجلس في ظلماءه، كمن توّرط في حملٍ ثقيل، كبير، لا تقوى على حمله يدان صغيرتان، ضئيلتان:

-“لكنني…
لا أكذب يا أمي!”