شخوص السيّد x

تقرّر أن يكتبني منذ ٣ سنوات. طرأت له في ساعةٍ متعبة قُبيل نومه، ثم خاتله التعب، فارتأى العودة لي لاحقاً.

إثر ذلك.. أمضيت بقيّة عمري في المسودات.

كنت أوّل الأمر مطيعاً واجماً لا أبرح سطري، مثل جنديٍ يرقب فناءه. فكان يزيد عليّ سطراً كل أسبوع، ثم شهر، ثم لم يزد بعدها أبداً. وبقيت معلقاً هكذا لا أدري ما أفعل. عزوت المسألة أول الأمر إلى القفلة، ثم ساورتني بعدها شكوكٌ حول مهارته، فآثرت القيام على النص بنفسي، ولم يُعجبني مايوشك أن يقول فيه، وما سيؤول عليه، حتى خرجتُ عن السياق تماماً.

لا، بل هربت، بكل نقاطي وأحرفي، كان اللئيم يجترني إلى حتفي، وإذا اعتقدت ان حتفي كان الموت فأنت كريمُ ظن، ثمة ماهو أسوأ من الموت: الأبديّة.

أما أوقات فراغي، فطفقت أقضيها في تفقد الشخوص الأخرى. علمتُ أن مني كُثر، وإن تعددت أحوالهم واجناسهم.. كان الأمر في جملته مروعاً ورهيباً، أحدهم كان نقطة، تخيّل. نسي وضعها آخر سطرٍ في إحدى قصصه الغبية وعلقت في جملةٍ اعتراضيّة، وظلت هائمة ومذعورة منذ ذلك الوقت. أخبرتها بعدها أن تأتي معي علها تطمئن إلى خلاصها وتفد إلى قرارها، فالتحمت بي وصارت تتبعني مثل ظل.

سمعت بذلك كل العوالق الأخرى، وانتشر شأني في بقية الأوراق ولما سمعت بذلك شخصيةً مُعدمة كان مقدراً لها أن تموت، حاولت الفرار معي. حاولت إقناعها بمصيرها: لقد تقرر أمرك و زُرَّت خاتمتك. وإن كان في الأمر أية عزاء، فقد قُدر لكِ عكس بقيتنا أن تعرفي مصيرك، وهذا هو المهم.

– “لست أبالي أين أذهب، المهم ألا أموت تلك الموتة الشنيعة!”
فأخذت أجرّ “المعدمة” معي.

ثم ألفينا أغراباً أُخر، أحدهم كان قادماً من رسالة، وأنبأنا أحوالهم، لم يكن منهم كثير، أخبرنا كيف كانت تتخلص صاحبتهم منهم بسرعةٍ وصرامة. أي شخصيةٍ لا تثير استحسانها كانت تمسحها سراعاً، وأي لفظةٍ لم تكن لتفضي إلى شيء كانت تتخلص منها إلى الأبد… المساكين، كانت تجزّهم جزاً.

أحدنا حاول الإنتحار، لكنه لم يجد سبيلاً إلى ذلك. فصار يفكر بالهرب، إلى يد كاتبٍ آخر ليُنهيه. كان يترصد كل الرسائل عله ينجو. ونجح بذلك. ولعل نجاحه هذا عائدٌ إلى تكوينته في أصلها، كان شخصيةً مكّارة في مشهدٍ جانبي لقصة بوليسية.

سمعنا بعدها أنه صار شيخاً ثرياً وسعيداً ويرفل في قصته المتقنة والتامّة، بعد أن كان نكرة.. الصعلوك.

ثلاثة أسباب دفعت الساهد إلى دهس قطته

الأول، أن الساعة تجاوزت الثانية فجراً، وهي ساعةٌ يُحس فيها المرء بإلحاحٍ مرير أنما يريد شيئاً، لايعرفه. ويودُّ لو يقول أمراً، لا يتذكره. لكنه يعرف على وجه التحديد أن ذكرىً ما تلعب في رأسه كل يوم، وتطرق باستمرار. مثل صنبورٍ مهتريء، لا يصدح صوته ولا يزعجك، إلا في الليل.

يتذكر أنه كان سعيداً. وأنه أحس بالإرتياح بعد أن نال قسطه الثقيل من الأيام.
كان قد بلغ كفايته، وكان مقتنعاً في دخيلة نفسه أنَّ على المرء أن يتعفّر في الأيام العسيرة -مثلما تتلظّى دودةٌ في حرّ الثرى- حتى يتسنى له أخيراً أن يتحصّل مِنحته. وعلى ذلك، صابر وقاسى باجتهاد.

وإذ لحقت كل عذاباته الماضية، وعرفها، أحس إذ جاءت أنما هي ذي مِنحته. وأن الدنيا لايمكنها الآن -وقد دفع حصّته- أن تأتيه من الرزايا بشيء، أو تصيبه من المضارّ بضُر.. إلا أن كان ضُراً بينهما.
اعتبر حباً مُقبلاً مثل هذا مواساةً كونية، تقديراً صادقاً عن آداءه النجيب في كل السنوات الماضية التي تمخّض في كربها. وعدّها العافية الأوحد، التي كانت تنقصه حتى يبرأ.

قانعاً، مُطرقاً، ومُبتهلاً تسلّم بحبور كل هذا الحب الذي كان غائباً. حتى أنه سمح لنفسه -على غير العادة- أن يكون مغفلاً، معتقداً في قرارة نفسه أن الحب هو الموضع الوحيد الذي يسعك فيه أن تكون فيه مغفلاً؛ لأن المتعة تتطلب ذلك.

والثاني:

أنها أحبته، لكن أي نوعٍ من الحب كان ذلك؟ لم يكن وفق تصوراته المثالية، لكنه كان حبّهما الخاص. مجذوم، ومعتلّ، غير أنه يقوم بدوره على أكمل وجه.
لا، لم تكن طريقتها في حبه، ولا نوع هذا الحب هما ما ربطاه، وإنما هي، وحدها، كيفما كان حبها واعتلالها.

لكنَّ حبها، بعد ذلك، بدأ يخبو. وبات انتهاءه -بعد محاولتهما الخامسة لإنجاب أول طفلٍ لهما- أمراً مؤكداً. ولايسعك، حيال الأشياء التي ترنو إلى زوالها، إلا أن ترقب آمالك ومَظانّك تذوي معها.. مثلما يتأمل المرء قطرةً عزلى تتبخّر تحت الضحى.
وحتى يُبقي على هذه الزيجة، مادام حبه قائماً، كان عليه أن يستقطع من رصيد ذكرياته المحمومة معها، الذكريات التي كانت تحبه فيها. ثم يطمئن، وتهدأ روعته، ويحس أن حبها لازال باقياً.

كان قد تكيّف مع غياب هذا الحب، ونوبات النزق المتكررة، وربى معهما لعامين متتالين دونما سخطٍ أو غضب. والمرء يألف الخسّة البشرية إذا ما تلبّست الذين يحبهم؛ يحسبها عارضاً يستطيع التعامل معه. لكن الأمر الذي لم يتنبّه له، الأمر الذي عصر قلبه ودكَّ ارتياحه كان أن تحب رجلاً غيره.
رأى أمام عينه كل الحب الذي كان بوسعه أن يحظى به، كل الاستثناءات التي كان يستحقها، وينتظرها. رأى.. إلى أي مدىً قد يأخذها حبها، وإلى أي عذوبةٍ قد تصير مُلاطفاتها. في حين كان يحسب نفسه آخر حدّ.
هكذا إذن، لم يكن حبها له إلا تمريناً عجلاً وسريعاً قبل تنهمك أن مهمتها الأكبر.

والثالثة:

أن الساعة الآن الرابعة، وهذه ساعة الغضب. الغضب الذي يعقب مناجاةً قاسية ومطولة، لايخرج منها أحدٌ إلا بفهمٍ مرير.
ثم بدءت تموء، القطة التي بدأنا بها، وتنبّه لها وهي تنسرق بخفة إلى باحة المنزل، وأخذ يفكّر أنها الشيء الوحيد الذي بقي له، إعتذار آخر مشوّه سيغادره عما قريب، وينقلب على عقبيه. وراح يتأمل كيف كان متعلقاً بها، وإلى أي أذىً قد يأخذه تعلقٌ مثل هذا.

لا، لم يكن مستعداً. رصد موقعها، ووجه مقوده تجاهها، ثم قاد بإصرار ناحيتها.

باستطاعتي أن أعيش وحيدة – قصّة قصيرة

أتذكر أول مرةٍ أحسست فيها بالاغتراب، كنت في السابعة من عمري، وكانت صديقتي التي أمضت فصلاً دراسياً كاملاً معي قد تخلت عني للتو. أنفلقت مني يومها أوّل خيبة.
“لستِ بحاجةٍ إلى أحد، باستطاعتك العيش وحيدة” أخبرتني أمي.

ثم دخلت الجامعة، وتخرجت، وتشذّر كل رفاقي الذين عرفتهم. لكنني لم أقلق؛ باستطاعتي العيش وحيدة.

ثم كبرت، وأحببت، لكن أحداً لم يحبني. باستطاعتي العيش وحيدة.

ثم تزوجت، لم أسأل ولم أطلب، لم يُعطِ ولم آخذ، لم أختر شيئاً من ذلك، ولم أبديه. وما ضرّني ذلك في شيء.. باستطاعتي أن أعيش وحيدة.
ثم بلغت الثلاثين، وأحسستُ استطاعتي تذبل. ووحدتي تكبر. أردت طفلاً، بل أطفالاً. كانت تلك أول مرةٍ أريد، وأول مرةٍ أسأل. استيقظت رغبتي، وأودعتها بحفاوة في صغاري.

في طاولة الفحص، نظرت إليّ الطبيبة بأسى، وأنبأتني يدها وهي تربت علي كل شيء.

تذكرت أمي: “باستطاعتك…”

لكن، لا.

وبكيت.

مسرح بيكيت.

أمضيت الأيام الماضية بصحبة عائلة متجهة إلى مكة، جاء قرار الارتحال فجائياً، وعبثياً. وأعجبني ذلك؛ كنت قد مللت، رغم اطمئنان رفاقي لهذا الملل، ومحاولتهم صرفي عن قراري، وتقدير النعمة، نعمة الهدوء، والترفُّل في طمأنينة الركود. لا مصائب تهلّ عليك، ولا خطوب تُرديك. هدوء.. تامّ، وصارخ، لا تتحصّن عنده بالتحرّز أو القلق، كان ذلك بالنسبة لهم ترفُ الوجود، وقداسته.
في حين كانوا يرون في حالنا النعماء، لم أكن أرى إلا حالاً بائسة، كأننا أحد شخوص بيكيت*. وفي سبيلي للقضاء على هذه الأيام الرخوة آثرت الخروج عن النص، وبدا أن لدى هذه العائلة سعياً مثيراً ترنو إليه، فلحقتهم.

لم يحفل بي الأب الأيام الأولى، رغم محاولاتي البائسة لتلطيف الجو، وعزوت ذلك لانشغاله بالقيادة، وانكبابه على المهمة بقلقٍ وحرص، كمن يحمل ورطةً يُشغله أمر التخلص منها.
لكن الأم تنبّهت لي، ثم لحقها الصغار، ولا يسعنى -مع ذلك- أن افترض استلطافهم أو استحسانهم، غير أني اطمأننت لوجودي رغم كل شيء.

كان الصغير يذكّي الخصومة كلما أقبلت عليه، فانتهجت المحاذاة، وجانبته. أما الأخت الوسطى فكانت صامتة طوال الطريق، وتحاول إسباغ ثيمة “أولئك الذين يعرفون، لا يتكلمون” على نفسها. غير أنها لم تبلغ من أمر العارفين إلا الصمت، ولعلها أحسنت ذلك في النهاية. كان الإستقرار بجانبها بصمت أمراً باعثاً على الطمأنينة، ذلك الهدوء الذي لا يبعث على الحرج أو الغرابة.

بات وجودي بعدها مقلقاً، أحسست بثقل الموقف، وعِظم المأزق. أحطت نفسي دونما أي تفكير بجوِّ ساخط، وغاضب في حين كان يسعني أن أتجنب ذلك كله، لكني استقدمت حسن النية -مثلما أفعل دائماً- لأتفادى الندم.. رغم انتهائي دائماً إليه.

ثم أصَبت، ولهبني الندم، إذ قذفوا بي خارج السيارة، ويسعني أن أتبيّن مقدار بغضهم لما تحيّنوا نومي حتى يتخلصوا مني. أيُّ خسّة، ولئامة. لا ضمانات تصاحب أي معرفة جديدة.
لُفظت في منتصف الشارع، مثل بصقة. أصبت بالرعب، وأخذت أموجُ في الهواء وأرتعش مرعوباً في العراء.
غير أني تداركت الموقف، وأحسنت النية مرةً أخرى لما رأيتني قُذفت قرب أحد المحطات، فعجّلت إليها.

عند المحطة، كان أمامي خيارين، وسيّارتين. مجموعة من الشباب، وعائلة كما الأولى، فانضممت لثانيهما دون أن أستغرق في الاختيار. لكنه كان خياراً خاطئاً، كل شيء كان خاطئاً منذ البدء. كانت عائلةً مروعّة، وناقمة، كل فردٍ منها كان يرميني بشرر، وينهرني دونما تحرّجٍ أو اعتبار. وكأنما لم أبرح حالاً غير الأولى.

عند هذه اللحظة، رحت أسائل نفسي، وسمحت للندم أن ينال حيّزه الأكبر، بدى جلياً أن حاويات السويدي ومسرح بيكيت كان في النهاية أطيب لي من هذا كله.

حدجتني الأم بنظراتها، ثم صرخت في أبناءها:
– “أحد يذبح الذبّان ذا عنّا”

خبطة في الهواء:
– “ذبحتها يمه..
خلاص.”

الرجل الذي أحسن التوقف.

وإذا كان ثمة مزيةٍ يتزيا بها، فإنه كان يُحسن التوقف. كان يعرف متى يتوقف عن الكلام، ومتى يتوقف عن الصمت. متى يكف عن الإقدام، ومتى يكف عن الإحجام. متى يقف عن الكذب، ومتى يقف عن الصدق… كان الرجل عبقرياً، ولعله بذلك كان قد بلغ فهم الأشياء.

وأردت فهم ذلك كله عنه قبل أيام، غير أنه… كان قد توقف عن الحياة.

المسكين. (قصة قصيرة)

– يقولون أنها كانت قريةً ناضخة، وحيّة. وإني لأظنها استصابت لما قفرها قومها وانزاحوا عنها.
– لا أذكر عندها إلا وجعي، ولا أذكر منها إلا مُنقلبي.
– صحيح، أُخبرنا بأنك كنت تحب ليلى هاهنا.

وثب أمامي مثل قط: “من قال؟! إنما أكرهها! ومابغضت أحداً من العالمين مثلما بغضتها!”
ثم هدأ، وتراجع: “لكن، صحيح… كنت أحبها
وهبتها خاطري كله، وخيري جله، ورأيت فيها حاضري، وغدي، وفواتيحي، وخواتيمي، ويممت كل مراكبي عندها.
وظننتها.. أحبتني.
لكنها، لم تقابلني بمثل نيّتي، واختارت نيةً عند غيري

عند قريبٍ لها.

أما وقد حالت بيني وبينها الأيام فإني ما كنت لآسى على مدبر، هل سمعت؟ ماكنت لأغتفر لنفسي هذه الحماقة.”
– آه.. صحيح.

“لا أحتاجها، ألست تراني حياً؟!” وكنت أراه ميتاً.
“أما تراني بخير حال؟” وكانت حاله مزرية.
“إنني أتنفس” يختنق.
“وأضحك” كاذب.
“لقد تجاوزتها منذ زمن” المسكين…

– مابالك لا تتزوج إذاً وقد جاوزت الأربعين.

أخذ يتمتم.. ثم رفع رأسه تجاهي:

“لكنني…
أحتاج ليلى.”

ثم أجهش بالبكاء.

من يغفر لمن؟

سيوران -من بين أحد مقالاته التشاؤمية- كان يرى أن التسامح في حقيقته ليس إلا دلالةَ على الهزيمة، وخوار القوى: “لم أعد أملك القوة الكافية لأتمنى موت عدوّ.”

ولعلّه كان يركن في قوله هذا إلى التسامح مع فِكر الآخر لا ماهيّته؛ أي عقيدته، عرقه، وأيديولجيته. ذلك أن التسامح مع البشر في بشريّتهم وسلوكياتهم -كالخديعة والكذب- إنما هو إنتصارٌ على الإنفعالات الإنسانية وتخلصٌ مريح من شباك الآخر.

وإذ نُقارب فكرة سيوران، فقد يكون التسامح- في بعض حالاته- ليس إلا اليأس بصورته الإيجابية.
اليأس الذي يمنعك عن استعتاب الآخرين في ماهيّتهم، ومساءلة العدوّ عن شرّه. اليأس الذي يمنعك أن تكون قسيساً ومُبشراً في مُتكأ شياطين.

لكن ذلك لا يهم، سيستدرك المرء عند مرحلةٍ ما نقصان الآخرين وشرورهم، وسيصفح لهم ذلك كله دونما أيّ اكتراث. ثمة مصالحة أشدُّ قداسةً يتعيّن على المرء أن يبرمها حتى يمخر السلام قلبه، لا مكان للآخرين فيها.. وهي مُصالحته نفسه.

أن تغفر لنفسك خوارها، واستسلامها. أن تغفر لها إيمانها بالآخرين ساعة الكفر ويأسها ساعة اليقين. أن تغفر لحظّك، وعزاءاتك الكاذبة. أن تغفر لقدمك، ركضها في غير سبيلها، وإحجامها عند وجهتها. أن تغفر لنفسك، تصلّبها ساعة اللين، وهشاشتها ساعة التجلّد. أن تغفر لذاكرتك نسيانها ما يبعثك من مرقدك، وتيقّظها لما يدكُّ صدرك. أن تغفر لصوتك، حشرجته عند من يهمّه، وصِدقه عند من لا يفعل. أن تغفر صمتك، وقولك. جهلك ومعرفتك… أن تغفر لنفسك بشريّتها.

يُشبه الأمر ما قاله ليندر: “بإمكاني أن أغفر، لكن ليس لنفسي.. بإمكاني أن أغسل أخطاء الآخرين، لكني لا أغسل أخطائي. أفهم أنني يجب أن أسامح نفسي، لكني لا أفعل.”


ثم إذا أنت غفرت لنفسك، هل تصفح لك الأيام؟ هل يغفر حدسك.
وهل.. يغفر لك يقينك شكك.

من يغفر لمن.